زرع محمد عبد الكريم المبارك أرضه (20 دونم) في خان شيخون بريف إدلب، ببذار الشعير وبعض شتلات الفستق الحلبي، وانتظر موسم الحصاد، لبيع المحصول وتأمين تكاليف عودة أهله من المناطق الشمالية، لكن حريقاً أتى على المحصول بأكمله وبدد أحلامه.
“كنت حاطط كل أملي بالمحصول بس احترق نتيجة موجة حر، ومابقا فيني ساعد أهلي ليرجعوا على بيتهم وأرضهم” يقول محمد مبينا أنه بات مضطراً للعمل عند الغير كعامل لتأمين دخله وسد احتياجاته اليومية.
الحريق الذي التهم محصول محمد، حدث كارثي يعيشه كثيرون حول العالم نتيجة التغير المناخي، الذي يزيد تواتر الحرائق وشدتها، لكنه أشد وطأة على الأشخاص الذين لا يزالون يحاولون التعافي والوقوف من جديد بعد أزمة طويلة، فهم غير قادرين على تحمل صدمات جديدة.
وزيادة الحرائق ليست التأثير الوحيد لتغير المناخ على الفلاحين في سورية، فقلة الأمطار وارتفاع حرارة الصيف والخريف، وانخفاضها في الشتاء والعواصف، أثرت بشكل كبير على المزارعين كما في اللاذقية، ما سبب تراجع إنتاج أراضيهم وخسارة محصولهم بشكل كامل ببعض الأحيان.
“حرارة الصيف في تزايد كبير والمبيدات الحشريّة لم تعد تؤثر على البعوضة البيضاء التي تضر محاصيل الحمضيات، وتتكاثر بشدة في درجات الحرارة العالية والرطوبة المرتفعة، كما أن إنتاج أشجار الزيتون بشكل وفير يحتاج إلى هطول الأمطار في شهر أيلول، وهو ما لم يحصل منذ قرابة الخمس سنوات، كما أن تقارب درجات الحرارة بين الخريف والصيف أضعف محاصيل الزيتون” يقول فراس سليمان صارم مزارع من سكان قرية الصنوبر في ريف اللاذقية.
العم فراس خسر أيضاً محصولي الكوسا والباذنجان بشكل كامل في الشتاء الفائت، نتيجة لدرجات الحرارة المنخفضة جداً وتشكل الجليد، الأمر الذي لم يعتد الفلاحين عليه في المناطق الساحلية.
وتأثرت الأراضي الزراعيّة بالمناطق الجبلية في ريف #اللاذقية، بحرائق واسعة نتيجة الحرارة المرتفعة والرياح، كما أنّ المحاصيل والأشجار تضررت بالعواصف التي ازدادات في غير أوقاتها المعتادة.
ويهدد تراجع الزراعة وإنتاج الأراضي الأمن الغذائي للأسر والعائلات، ويذكر المزارع أيوب أيوب من الرستن في حمص أن زراعة القمح تأثرت بشكل كبير نتيجة تغير المناخ، فدنم البعل الواحد من القمح كان ينتج بين (400 و 600) كغ، لكنه تراجع اليوم ليصبح بين (200-250) كغ فقط، والقمح هو المكون الرئيسي في إنتاج الخبز، المادة الأساسية في غذاء معظم العائلات، كما هجر فلاحون زراعة الشوندر السكري، بسبب الجفاف وقلة الأمطار اللذين أثرا على كمية الانتاج وجودته.
أيوب أب لسبعة أولاد، يعتمد على الزراعة بشكل كامل لإعالة أسرته، لكن ضعف موارد الأرض أثر على نوعية طعامهم ولباسهم وحياتهم بكاملها، حسب تعبيره ويقول “قلة الأمطار تسببت بتراجع زراعة الكثير من الأصناف كالكزبرة وحبة البركة واليانسون والكمون، وهي مزروعات تستخدم في المجال الطبي، وكذلك القطن لأنها تعتمد على وفرة المياه والأمطار في أوقاتها المحددة“.
ويذكر أيوب (52) عاماً الذي يتلقى سلل غذائية ومنحة قمح من الهلال الأحمر العربي السوري لمساعدته في التكيف مع تحديات تغير المناخ أن الجفاف أثر على مياه الآبار أيضاً، حيث كانت تستخرج بعمق (15) متراً وهي كافية لري المزروعات على مساحة (15) دونم وأكثر، أما اليوم تستخرج بعمق (70 م) وهي غير كافية للري.
انخفاض منسوب مياه الآبار، مشكلة دفعت أبو علي وهو فلاح من قرية الجبلي في ريف الرقة، إلى تأجير أرضه بدل زراعتها، ويقول “الأرض كانت مصدر دخلي الوحيد، ومساحتها 6 دونم، وبسبب عدم إمكانية الوصول إلى محطات الري جراء الأزمة، حفرت بئر لسقايتها لكن ارتفاع درجات الحرارة أدى إلى انخفاض منسوب مياهها وازدادت نسبة ملوحتها، وأصبحت غير مناسبة لري الخضروات وتراجعت كميات الإنتاج“.
ويتابع أبو علي (65 عاماً) “منذ عامين زرعت الأرض قمحاً، فأنتجت 550 كيلو غرام فقط، ولم أعد أستطيع تحمل تكاليف الزراعة كاستئجار معدات وحراثة وديزل وبذار وأسمدة ومبيدات حشرية ما دفعني إلى تأجيرها بملبغ بسيط لشخص آخر لديه القدرة على استجرار المياه من آبار مجاورة أكثر عمقاً من بئري”
وإلى جانب المزارعين تأثر مربو المواشي بالجفاف الذي تسبب بانخفاض مساحات الرعي، وبالتالي ارتفاع أسعار الإعلاف، ما دفع البعض في مناطق كعقيربات والسعن وسلمية بحماه، إلى بيع مواشيهم أو الاقتراض لتأمين العلف.
ورغم أن الأشخاص الذين يعتمدون في سبل عيشهم على الطقس، كالمزارعين ومربي المواشي هم الأكثر تأثراً بالتغير المناخي، إلا أن تأثير الأخير يطال كل مناحي الحياة، كالخدمات الطبية التي يزداد الضغط عليها لاسيما في موجات الحر والبرد، والعواصف الغبارية، حيث يذكر مسعفو الهلال الأحمر في دير الزور تاريخ 16 حزيران 2022 جيداً، عندما ضربت عاصفةٌ غباريّة المدينة بسرعة رياح تتجاوز ال 100 كم في الساعة، وتلقوا يومها بلاغات كثيرة، واضطروا في بعض الأوقات لنقل أكثر من حالة ضمن السيارة الواحدة، إلى مشفى الأسد وهو الوحيد الذي كان بإمكانه استقبال حالات اختناق التي وصل مجموعها إلى 66 حالة، إضافة للإصابات التي جرى التعامل معها في المنزل.
وتهدد تأثيرات التغير المناخي كل مكان في العالم، وتطال الغذاء والمياه وسبل العيش والأمن الاقتصادي والصحي، لكن المجتمعات والأشخاص الذين يعيشون في ظروف هشة هم الأكثر تأثراً، وذلك بسبب محدودية قدرتهم على التأقلم، وهم أساساً يواجهون عواقب الأزمات.
ويضطر السكان كما في قرى السويداء المتضررة من الجفاف، إلى خيارات تأقلم سلبي، كالهجرة من الريف إلى المدينة، وبيع الأصول كالأراضي إن وجدت، واستخدام البذار المخصصة للزراعة في الاستهلاك الأسري، وتقليل حجم وعدد الوجبات اليومية، ودفع الأطفال للدخول إلى سوق العمل، وذلك حسب بيانات جمعها متطوعو الهلال الأحمر في زيارات منزلية لرصد استراتيجيات الأسر للتكيّف.
ففي قرية عراجة بريف السويداء الشرقي، التي تعاني من قلة الأمطار، ويعتمد سكانها على شراء المياه من الصهاريج، لغياب مصدر آخر، حاول صابر حرب /62 عاماً/ التكيف مع التغيرات المناخية التي أثرت على إنتاج أرضه عبر بيع رؤوس المواشي (6 أبقار و50 رأس غنم)، ومشاركة جزء من إنتاج أرضه مع أصحاب الجرارات الزراعية، لكنها لم تجدِ نفعاً على حد تعبيره في تخفيف الخسائر وتأمين رزق يلبي احتياجات الأسرة، ما دفع أولاده الذكور وعددهم أربعة إلى السفر، واستقراره مع زوجته وابنته في المدينة، ويقول عن قراره “تغيرت حياتي للأسوأ لأنني انقطعت عن أرضي التي أحب، ومحيطي الاجتماعي الذي اعتدت عليه، لكن لم يكن لدي خيار آخر“.
وفيما تضررت قرى كثيرة بالجفاف وهجر فلاحيها أراضيهم، أغرقت الفيضانات والسيول أراضٍ كثيرة في ريف الرقة الجنوبي الشرقي والشمالي، جراء الهطولات المطرية الغزيرة، ولم تكتفِ بذلك بل أزهقت أرواحاً، حيث يذكر سكان قرية العكيرشي ريف الرقة الجنوبي والتي تبعد 1 كم عن نهر الفرات، قصة ابراهيم الذي فقد زوجته وابنته جراء فيضان جرفهم إلى الوادي القريب من المنزل.
ويقول أحد القاطنين بالقرب من منزل ابراهيم أن الأخير نزح إلى قرية العكيرشي هرباً من الوضع المتأزم في قريته وحماية عائلته، فحدث الفيضان وتمكن من حماية ابنه بوضعه في مكان مرتفع وعندما عاد لينقذ زوجته وابنته لم يجدهما، بل وجدتا في اليوم التالي فاقدتان للحياة بأحد الأراضي الزراعية أسفل الوادي.
وحسب تقرير نشرته اللجنة الدولية للصيب الأحمر بعنوان “عندما تمطر غباراً” سيتضاعف عدد الأشخاص الذين يحتاجون مساعدات إنسانية دولية بحلول عام 2050 مقارنة بعام 2018، ليصبح 200 مليون شخص، ويعزى ذلك جزئياً إلى التغير المناخي، كما أن ثلث الأراضي هجرت آخر 40 عاماً بسبب التعرية، يضاف لها 20 مليون هكتار من الأراضي الزراعية سنوياً، إما بسبب التدهور الشديد الذي يحول دون إنتاج المحاصيل أو بسبب التمدد الحضري.